فصل: فصــل في تفسير قوله تعالى {فيقسمان بالله إن ارتبتم}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


وقَال شَيخ الإسْلام ـ رَحمه اللّه ‏:‏

 فصــل

قوله ـ تعالى علواً كبيراً‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 105‏]‏، لا يقتضى ترك الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، لا نهياً ولا إذناً، كما في الحديث المشهور فى السنن عن أبى بكر الصديق ـ رضى اللّه عنه ـ أنه خطب على منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها فى غير موضعها، وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يَعُمَّهُم اللّه بعقاب منه‏)‏‏.‏

وكذلك فى حديث أبى ثعلبة الخشنى ـ مرفوعا ـ في تأويلها‏:‏ ‏(‏إذا رأيت شُحّا مُطاعا، وهَوًى متبعًا، وإعجاب كل ذى رأى برأيه، فعليك بخويْصة نفسك‏)‏‏.‏ وهذا يفسره حديث أبى سعيد فى مسلم‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏)‏‏.‏ فإذا قوى أهل الفجور حتى لا يبقي لهم إصغاء إلى البر، بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان فى هذه الحال، وبقى بالقلب‏.‏

والشح هو شدة الحرص التى توجب البخل والظلم، وهو منع الخير وكراهته، و‏(‏الهوى المتبع‏)‏ فى إرادة الشر ومحبته و‏(‏الإعجاب بالرأى‏)‏ فى العقل والعلم، فذكر فساد القوى الثلاث التى هي العلم والحب والبغض، كما فى الحديث الآخر‏:‏‏(‏ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه‏)‏، وبإزائها الثلاث المنجيات‏:‏ ‏(‏خشية اللّه فى السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق فى الغضب والرضا‏)‏، وهي التى سألها في الحديث الآخر‏:‏‏(‏اللهم إني أسألك خشيتك فى السر والعلانية، وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا، وأسألك القصد فى الفقر والغنى‏)‏‏.‏

فخشية اللّه بإزاء اتباع الهوى؛ فإن الخشية تمنع ذلك، كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏40‏]‏، والقصد فـي الفقـر والغنى بإزاء الشح المطاع، وكلمة الحق فى الغضب والرضا بإزاء إعجاب المرء بنفسه، وما ذكره الصديق ظاهر؛ فإن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الزموها وأقبلوا عليها، ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من الأمر والنهي، وقال‏:‏ ‏{‏لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏ وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدى الواجب من الأمر النهي وغيرهما، ولكن فى الآية فوائد عظيمة‏:‏

أحدها‏:‏ ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديا‏.‏

الثاني‏:‏ ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم؛ فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى، والحزن على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران فى قوله‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 127‏]‏‏.‏

الثالث‏:‏ ألا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏88‏]‏، فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم فى آية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم فى آية، فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم، إما راغبا وإما راهباً‏.‏

الرابع‏:‏ ألا يعتدى على أهل المعاصي بزيادة على المشروع فى بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم‏:‏ عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏8‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏190‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏193‏]‏، فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يتعدى ‏[‏فى المطبوعة‏:‏يعتدى‏:‏ والصواب ما أثبتناه‏]‏ حدود اللّه، إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين‏.‏

الخامس‏:‏ أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصبر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصد؛ فإن ذلك داخل في قوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ وفى قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏‏.‏

فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها المعنى الآخر، وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا، وإعراضه عما لا يعنيه، كما قال صاحب الشريعة‏:‏ ‏(‏من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه‏)‏، ولاسيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه،لاسيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة‏.‏

وكذلك العمل، فصاحبه إما معتد ظالم، وإما سفيه عابث، وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللّه، ويكون من باب الظلم والعدوان‏.‏

فَتَأمُّل الآية فى هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء، وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة ـ علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها ـ وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنة فى محنة الصفات والقرآن؛ محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة عَلَى عِليّ وأهل بيته، وكما قد تبغى المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغى بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة، بزيادة على ما أمر اللّه به، وهو الإسراف المذكور فى قولهم‏:‏ ‏{‏ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏‏.‏

وبإزاء هذا العدوان تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق، أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فى هذه الأمور كلها، فما أحسن ما قال بعض السلف‏:‏ ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين ـ لا يبالي بأيهما ظفر ـ غلو أو تقصير‏.‏

فالمعين على الإثم والعدوان بإزائه تارك الإعانة على البر والتقوى، وفاعل المأمور به وزيادة منهى عنها بإزائه تارك المنهى عنه وبعض المأمور به، واللّه يهدينا الصراط المستقيم، ولا حول ولا قوة إلا باللّه‏.‏

قال شيخ الإِسلام ـ رَحِمهُ اللَّه‏:‏

 فصــل

الذي يدل عليه القرآن فى سورة المائدة فى آية الشهادة فى قوله‏:‏ ‏{‏فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏106‏]‏ أي‏:‏ بقولنا‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏، حذف ضمير كان لظهوره، أي‏:‏ ولو كان المشهود له، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏‏[‏ الأنعام‏:‏152‏]‏، وكما فـى قـوله‏:‏ ‏{‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ‏}‏ إلـى قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏135‏]‏، أي‏:‏ المشهود عليه ونحو ذلك؛ لأن العادة أن الشهادة المزورة يعتاض عليها، وإلا فليس أحد يشهد شهادة مزورة بلا عوض ـ ولو مدح ـ أو اتخاذ يد‏.‏ وآفة الشهادة‏:‏ إما اللَّيُّ، وإما الإعراض؛ الكذب والكتمان، فيحلفان‏:‏ لا نشتري بقولنا ثمناً، أي‏:‏ لا نكذب ولا نكتم شهادة اللّه، أو‏:‏ لا نشتري بعهد اللّه ثمناً؛ لأنهما كانا مؤتمنين، فعليهما عهد بتسليم المال إلى مستحقه؛ فإن الوصية عهد من العهود‏.‏

وقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏107‏]‏، أعم من أن يكون في الشهادة أو الأمانة‏.‏ وسبب نزول الآية يقتضي أنه كان في الأمانة؛ فإنهما استشهدا وائتمنا؛ لكن ائتمانهما ليس خارجا عن القياس، بل حكمه ظاهر، فلم يحتج فيه إلى تنزيل، بخلاف استشهادهما، والمعثور على استحقاق الإثم ظهور بعض الوصية عند من اشتراها منهما بعد أن وجد ذكرها في الوصية، وسئلا عنها فأنكراها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ‏}‏ يحتمل أن يكون مضمناً معنى بغى عليهم، وعدى ‏{‏عَلَيْهِمُ‏}‏ كما يقال في الغصب‏:‏ غصبت علي مالي؛ ولهذا قيل‏:‏ ‏{‏لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ كما اعتدوا، ثم قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 108‏]‏‏.‏

وحديث ابن عباس فـى البخاري صريح فـى أن النبى صلى الله عليه وسلم حكم بمعنى مـا فـى القرآن، فرد اليمين على المدعيين بعد أن استحلف المدعى عليهم لما عثر على أنهما استحقا إثما، وهو إخبار المشترين أنهم اشتروا ‏(‏الجام‏)‏ ‏[‏هو إناء من فضة‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ جوم‏]‏ منهما بعد قولهما ما رأيناه، فحلف النبى صلى الله عليه وسلم اثنين من المدعيين الأوليان، وأخذ ‏(‏الجام‏)‏ من المشتري، وسلم إلى المدعي، وبطل البيع، وهذا لا يكون مع إقرارهما بأنهما باعا الجام؛ فإنه لم يكن يحتاج إلى يمين المدعيين لو اعترفا بأنه جام الموصى، وأنهما غصباه وباعاه، بل بقوا على إنكار قبضه مع بيعه، أو ادعوا مع ذلك أنه أوصى لهما به وهذا بعيد‏.‏

فظاهر الآية أن المدعى عليه المتهم بخيانة ونحوها ـ كما اتهم هؤلاء ـ إذا ظهر كذبه وخيانته كان ذلك لوثا يوجب رجحان جانب المدعي، فيحلف ويأخذ، كما قلنا فى الدماء سواء، والحكمة فيهما واحدة، وذلك أنه لما كانت العادة أن القتل لا يفعل علانية بل سراً، فيتعذر إقامة البينة، ولا يمكن أن يؤخذ بقول المدعي مطلقا، أخذ بقول من يترجح جانبه، فمع عدم اللوث جانب المنكر راجح، أما إذا كان قتل ولوث قوي جانب المدعي فيحلف‏.‏

وكذلك الخيانة والسرقة يتعذر إقامة البينة عليهما فى العادة، ومن يستحل أن يسرق فقد لا يتورع عن الكذب، فإذا لم يكن لوث فالأصل براءة الذمة، أما إذا ظهر لوث بأن يوجد بعض المسروق عنده فيحلف المدعي ويأخذ، وكذلك لو حلف المدعى عليه ابتداء ثم ظهر بعض المسروق عند من اشتراه أو انتهبه أو أخذه منه؛ فإن هذا اللوث في تغليب الظن أقوى، لكن فى الدم قد يتيقن القتل ويشك فى عين القاتل، فالدعوى إنما هي بالتعيين‏.‏

وأما فى الأموال، فتارة يتيقن ذهاب المال وقدره، مثل أن يكون معلوما في مكان معروف، وتارة يتيقن ذهاب مال لا قدره، بأن يعلم أنه كان هناك مال وذهب، وتارة يتيقن هتك الحرز ولا يدرى أذهب بشيء أم لا‏؟‏ هذا فى دعوى السرقة، وأما فى دعوى الخيانة فلا تعلم الخيانة، فإذا ظهر بعض المال المتهم به عند المدعي عليه أو من قبضه منه ظهر اللوث بترجيح جانب المدعى، فإن تحليف المدعى عليه حينئذ بعيد‏.‏

وقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعَى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه‏)‏‏.‏ جمع فيه الدماء والأموال، فكما أن الدماء إذا كان مع المدعى لوث حلف فكذلك الأموال، كما حلفناه مع شاهده، فكل ما يغلب على الظن صدقه فهو بمنزلة شاهده، كما جعلنا فى الدماء الشهادة المزورة لنقص نصابها أو صفاتها لوثا، وكذلك فى الأموال جعل الشاهد مع اليمين، فالشاهد المزور مع لوث وهو ‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ لكن ينبغي أن تعتبر فى هذا حال المدعى والمدعى عليه فى الصدق والكذب؛ فإن باب السرقة والخيانة لا يفعله إلا فاسق، فإن كان من أهل ذلك لم يكن‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏خرم بالأصل‏]‏ إذا لم يكن إلا عدلا، وكذلك المدعى قد يكذب، فاعتبار العدالة والفسق فى هذا يدل عليه قول الأنصاري‏:‏ كيف نرضى بأيمان قوم كفار‏؟‏ فعلم أن المتهم إذا كان فاجرا فللمدعى ألا يرضى بيمينه؛ لأنه من يستحل أن يسرق، يستحل أن يحلف‏.‏

 سُورَة الأنْعَام

 سُئِلَ ـ رَضي اللَّه عَنهُ ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏ الرعد‏:‏39‏]‏‏:‏ هل المحو والإثبات فى اللوح المحفوظ والكتاب الذي جاء فى الصحيح‏:‏ ‏(‏إن اللّه تعالى كتب كتاباً فهو عنده على عرشه‏)‏ الحديث، وقد جاء‏:‏ ‏(‏جَفَّ القلم‏)‏ ، فما معنى ذلك فى المحو والإثبات‏؟‏

وهل شرع في الدعاء أن يقول‏:‏‏(‏اللهم إن كنت كتبتني كذا فامحني واكتبني كذا، فإنك قلت‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ‏}‏‏؟‏ وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا‏؟‏ وهل الصحيح عندكم أن العمر يزيد بصلة الرحم، كما جاء في الحديث‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب ـ رضي اللّه عنه‏:‏

الحمد للّه رب العالمين‏.‏ أما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ فالأجل الأول هو‏:‏ أجل كل عبد؛ الذي ينقضي به عمره، والأجل المسمى عنده هو‏:‏ أجل القيامة العامة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب ولا نبى مرسل، كما قال‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏187‏]‏‏.‏ بخلاف ما إذا قال‏:‏ ‏{‏مُّسمًّى‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏282‏]‏، إذ لم يقيد بأنه مسمى عنده، فقد يعرفه العباد‏.‏

وأما أجل الموت فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد، وأجله وعمله، وشقى أو سعيد، كما قال فى الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يُجمَع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما نُطْفَة، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏:‏ اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح‏)‏، فهذا الأجل الذي هو أجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده‏.‏

وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏، فقد قيل‏:‏ إن المراد الجنس، أي ما يعمر من عمر إنسان، ولا ينقص من عمر إنسان، ثم التعمير والتقصير يراد به شيئان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا يطول عمره، وهذا يقصر عمره، فيكون تقصيره نقصاً له بالنسبة إلى غيره، كما أن المعمر يطول عمره، وهذا يقصر عمره، فيكون تقصيره نقصاً له بالنسبة إلى غيره، كما أن التعمير زيادة بالنسبة إلى آخر‏.‏

وقد يراد بالنقص النقص من العمر المكتوب، كما يراد بالزيادة الزيادة في العمر المكتوب، وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من سَرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأ له فى أثره فلْيَصِلْ رَحِمَه‏)‏، وقد قال بعض الناس‏:‏ إن المراد به البركة فى العمر، بأن يعمل فى الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا فى الكثير، قالوا‏:‏ لأن الرزق والأجل مقدران مكتوبان‏.‏

فيقال لهؤلاء‏:‏ تلك البركة ـ وهي الزيادة فى العمل، والنفع ـ هي أيضاً مقدرة مكتوبة، وتتناول لجميع الأشياء‏.‏

والجواب المحقق‏:‏ أن الله يكتب للعبد أجلا فى صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد فى ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب‏.‏

ونظير هذا ما فى الترمذي وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن آدم لما طلب من اللّه أن يريه صورة الأنبياء من ذريته فأراه إياهم، فرأى فيهم رجلا له بَصِيص، فقال‏:‏ من هذا يارب‏؟‏ فقال‏:‏ ابنك داود ‏.‏قال‏:‏ فكم عمره‏؟‏ قال‏:‏ أربعون سنة‏.‏ قال‏:‏ وكم عمري‏؟‏ قال‏:‏ ألف سنة‏.‏ قال‏:‏ فقد وهبت له من عمري ستين سنة‏.‏ فكتب عليه كتاب، وشهدت عليه الملائكة، فلما حضرته الوفاة قال‏:‏ قد بقي من عمري ستون سنة‏.‏ قالوا‏:‏ وهبتها لابنك داود، فأنكر ذلك، فأخرجوا الكتاب‏)‏‏.‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏فنَسِيَ آدم فنسيت ذريته، وجَحَد آدم فجحدت ذريته‏)‏ وروى أنه كمل لآدم عمره، ولداود عمره‏.‏

فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة، ثم جعله ستين، وهذا معنى ما روى عن عمر أنه قال‏:‏ اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحنى واكتبنى سعيداً، فإنك تمحوا ما تشاء وتثبت‏.‏

واللّه ـ سبحانه ـ عالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم اللّه، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها؛ فلهذا قال العلماء‏:‏ إن المحو والإثبات فى صحف الملائكة، وأما علم اللّه ـ سبحانه ـ فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالماً به، فلا محو فيه ولا إثبات‏.‏

وأما اللوح المحفوظ، فهل فيه محو وإثبات‏؟‏ على قولين،والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

وقَال أيضـاً‏:‏

 فصــل

ذكر اللّه أنه يرفع درجات من يشاء فى قصة مناظرة إبراهيم وفى قصة احتيال يوسف؛ ولهذا قال السلف‏:‏ بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدل عليه، فقصة إبراهيم فى العلم بالحجة، والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين، وقصة يوسف فى العلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب، فالأول علم بما يدفع المضار فى الدين، والثانى علم بما يجلب المنافع، أو يقال‏:‏ الأول هو العلم الذى يدفع المضرة عن الدين ويجلب منفعته، والثانى علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها، أو يقال قصة إبراهيم فى علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها، وقصة يوسف فى علم الأفعال النافعة عند الحاجة إليها، فالحاجة جلب المنفعة ودفع المضرة قد تكون إلى القول، وقد تكون‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏خرم بالأصل‏]‏‏.‏

ولهذا كان المقصرون عن علم الحجج والدلالات، وعلم السياسة والإمارات، مقهورين مع هذين الصنفين، تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم، وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك، وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شر بعض فى الدين والدنيا، وتارة يعيشون فى ظلهم فى مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم، ولا وال يظلمهم وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع والسياسة الدافعة للظلم‏.‏

ولهذا قيل‏:‏ صنفان إذا صلحوا صلح الناس‏:‏ العلماء والأمراء، وكما أن المنفعة فيهما فالمضرة منهما؛ فإن البدع والظلم لا تكون إلا فيهما؛ أهل الرياسة العلمية، وأهل الرياسة القدرية؛ ولهذا قال طائفة من السلف ـ كالثورى وابن عيينة وغيرهما ـ ما معناه‏:‏ أن من نجا من فتنة البدع وفتنة السلطان فقد نجا من الشر كله، وقد بسطت القول في هذا فى الصراط المستقيم عند قوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 69‏]‏‏.‏

 قال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللَّه ‏:‏

هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ‏.‏

منها قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏109‏]‏، والآية بعدها‏.‏ أشكلت قراءة الفتح على كثير بسبب أنهم ظنوا أن الآية بعدها جملة مبتدأة، وليس كذلك، لكنها داخلة فى خبر أن‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا كنتم لا تشعرون أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنا أفعل بهم هذا، لم يكن قسمهم صدقا، بل قد يكون كذبا، وهو ظاهر الكلام المعروف أنها ‏(‏أن‏)‏ المصدرية، ولو كان‏{‏وَنُقَلِّبُ‏}‏ إلخ ‏.‏كلاماً مبتدأ لزم أن كل من جاءته آية قلب فؤاده، وليس كذلك، بل قد يؤمن كثير منهم‏.‏

قال شيخ الإسلاَم ـ رَحِمهُ اللَّه ‏:‏

 فصــل

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ذكر هذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112-115‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 27‏]‏‏.‏

فأخبر فى هاتين الآيتين أنه لا مبدل لكلمات الله، وأخبر في الأولى أنها تمت صدقاً وعدلا، وقد تواتر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ ويأمر بالاستعاذة بكلمات اللّه التامات، وفى بعض الأحاديث ‏(‏التى لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62-64‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 34‏]‏، فأخبر في هذه الآية أيضاً أنه لا مبدل لكلمات اللّه، عقب قوله‏:‏ ‏{‏فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا‏}‏، وذلك بيان أن وعد اللّه الذي وعده رسله من كلماته التى لا مبدل لها، لما قال فى أوليائه‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ‏}‏ فإنه ذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، فوعدهم بنفي المخافة والحزن، وبالبشرى في الدارين‏.‏

وقال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ‏}‏، فكان فى هذا تحقيق كلام اللّه الذي هو وعده، كما قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏47‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏6‏]‏، وقال المؤمنون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏194‏]‏‏.‏ فإخلاف ميعاده تبديل لكلماته، وهو ـ سبحانه ـ لا مبدل لكلماته‏.‏

يبين ذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏28، 29‏]‏،فأخبر ـ سبحانه ـ أنه قدم إليهم بالوعيد،وقال‏:‏ ‏{‏مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ‏}‏ وهذا يقتضي أنه صادق في وعيده ـ أيضاً ـ وأن وعيده لا يبدل‏.‏

وهذا مما احتج به القائلون بأن فساق الملة لا يخرجون من النار‏.‏ وقد تكلمنا عليهم فى غير هذا الموضع، لكن هذه الآية تضعف جواب من يقول‏:‏ إن إخلاف الوعيد جائز‏:‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ‏}‏ دليل على أن وعيده لا يبدل، كما لا يبدل وعده‏.‏

لكن التحقيق الجمع بين نصوص الوعد والوعيد، وتفسير بعضها ببعض من غير تبديل شيء منها، كما يجمع بين نصوص الأمر والنهي من غير تبديل شيء منها، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏15‏]‏، واللّه أعلم‏.‏